You are here

فاطمة.. حين تحرَم الطفولة من البيت الدافئ

خزاعة- لا تدرك فاطمة (4 سنوات) حقيقة ما حدث مع أسرتها في تلك الليلة الاستثنائية من صيف تموز الحارق عام 2014، ولم تعرف لماذا قررت عائلتها التي تسكن في قرية خزاعة الانتقال فجأة من شقتهم في الطابق العلوي إلى بيت جدها في الطابق السفلي، لكنها تعي بالتأكيد أن الانتقال حدث في ظروف ليست سعيدة.

بدا على الجميع خوف شديد، كانت أم فاطمة تصرخ وتبكي، أما أبوها "تفكير النجار" فكان يبدو عليه الذعر وهو يتحدث مع جدها عن القصف والدمار والهروب، مسميات لم تعيها فاطمة تماماً، مع أنها سمعتها قبل نحو عامين أثناء حرب 2012 (الحرب الإسرائيلية الثانية على غزة)، حربٌ لم تكن طويلة بالقدر الكافي لتحفظ فاطمة هذه المسميات.

الحرب ليست لفظة غريبة على عائلة النجار، التي فقدت أحد أفرادها أثناء حرب 2008، والتي سيكتب لها أن تفقد الثاني في حرب الـ (51) يوماً عام 2014.

جد فاطمة ووالدهايعملان أجراء في الزراعة، بسيطان كغالبية سكان غزة، لم يفقدا الابن والشقيق فحسب، بل فقدا المنزل المكون من ثلاثة طوابق في قصف اسرائيلي هدم في لحظةٍ تعب سنين، وحرم فاطمة من رؤية البيت الذي ولدت فيه وقضت سنوات عمرها الأولى.

بدأت رحلة تشرد هذه العائلة بعد ليلة لن ينساها أهالي قرية خزاعة سريعاً، ليلةٌ دفعت تفاصيلها وأهوالها أهالي القرية إلى مغادرتها بشكلٍ جماعي.

كانت فاطمة بين ذراعي والدها الذي أنهكته رحلة الهروب، بعد مسيرٍ طويلٍ تحت شمسٍ حارقة، عندما واجهت الجيش الإسرائيلي لأول مرةٍ نظرت إلى والدها الذي رفع يديه إلى الجنود مستسلماً كي يأمن رصاصهم، فرفعت بدورها يدها مستسلمة.

كانت لحظة ليس من السهل على "تفكير" نسيانها، حملت مشاعر متناقضة، خوفٌ شديدٌ ممتزج بفرحٍ دفين لأن طفلته كبرت وبدأت تقلده.

خرج الجميع من خزاعة التي كانت مطوقة بالكامل إلى مدارس الأونروا في خانيونس، لم تعد فاطمة تستغرب من كل ما يحدث، مع أنها لم تفهم لماذا عليها أن تعيش مع الكثير من النساء والأطفال الغرباء في مكان واحد، الشبابيك ضيقة والأبواب معدنية زرقاء اللون، يسمونه عادةً فصل دراسي في مكان كبير يسمى مدرسة.

كل ما تعرفه فاطمة عن المدرسة حتى الآن، هي ذلك المكان الذي يمكن الذهاب إليه حال اندلاع الحرب، صحيح أنها لا تدري سبباً للحروب، ولا تعرف من هي الأطراف المتحاربة،هي شاهدت الدبابة لكنها لم تعرف علاقتها بالحرب، لقد رأت والدها يرفع يديه للرجل الذي يلبس الزي العسكري فوق تلك الآلة الضخمة، ربما ظنت أنه يحييه فحيّته هي الأخرى.

تكره فاطمة موعد الاستحمام أثناء مكوثها في المدرسة، لأنها كانت تظن أن أمها تعاني بسببه، فقد كان أخوتها يرفضون الإذعان لطلب والدتهم أن يستعدوا للحصول على وجبة مياه تبلل أجسادهم التي تتصبب عرقاً في ذلك الصيف الحار،كانت أمها تتلقى سيلاً من انتقادات النسوة اللاتي يجاورنها في الفصل، فقد رفضت مراراً استحمام أبنائها في حمامات المدرسة بسبب قذارتها، كانت تفعل ذلك داخل الفصل، أما فاطمة فقد راق لها أمر المسكن المستحدث، لم تكره المدرسة، وجدتها مكان يعجّ بأطفال آخرين غير الذين عرفتهم، وهو أمر أتاح لها فرصة اللعب طيلة الوقت.

حزنت فاطمة بعض الشيء عندما أخبرتها أمها أنهم سيتركون المدرسة، كانت الصغيرة قد تعودت على المكان، لكنها سرعان ما عبرت عن سعادتها لحظة أن رأت أمها تبكي فرحاًووالدها يبتسم ابتسامة عريضة وأخوتها يضجون فرحاً عندما دخلوا بيتهم المعدني الجديد (الكرفان) أول مرة فراحت تغني مع أخوتها

عادت فاطمة لتساؤلاتها التي لا تنتهي، لماذا يسكنون بيتاً معدنياً، لم تنتظر إجابة من أحد، كان يثير إعجابها هي وأخوتها الصوت الغريب الذي تسمعه عندما يضربون بأقدامهم على أرضية المنزل، وكانوا يستمتعون بتكرار هذا الصوت الملفت، لكنهم توقفوا عن ذلك بعدما سقطت أمهم داخل حفرة في الأرضية انكسرت على اثرها ساقها، فظنوا أن تكرار لعبتهم في الضرب بالأقدام على الأرضية هو السبب.

تبددت سعادة فاطمة واخوتها سريعاً، فقد لاحظت أن أرضية الحمام والمطبخ انهارتا، وكان الذباب يملأ جنبات المكان، وأمها تتذمر دوماً من عدم فعالية المادة اللاصقة التي تقتل الذباب، ومن عدم قدرتها على استخدام المطبخ والحمام، إلى أن قام زوجها بإصلاح الأرضية بشكل نهائي باستخدام الاسمنت بعد معركة طويلة من أجل الحصول عليه، صحيح أنه عالج جزئياً مشكلة الأرضيات، لكنه لم يمتلك أدارة سحرية لحل مشكلة الذباب.

شعرت فاطمة بالسعادة لأنها بدأت تذهب إلى "روضة الأطفال"، الجدران ملمسها ناعم هناك، وهي أكثر دفئاً من جدار الكرفان المعدني، كما أن الروضة خالية تقريباً من الذباب، والأهم من هذا كله أنها تعرفت إلى أصدقاء جدد.

سعادة فاطمة لم تدم طويلاً هذه المرة، ففي أحد الأيام كان عليها ألا تذهب إلى البستان، لأن مياه الأمطار دخلت من الأرضية المنهارة إلى الغرفة حيث توجد ملابسها، كانت تسمع صوت المطر طوال الليل، أحبته، ظنته يحمل لها دفئاً وهي تحت الأغطية التي قدمتها مؤسسات إنسانية، بعكس الجو الذي كان بارداً جداً خارج الكرفان.

لم يكن ذلك اليوم الوحيد الذي غابت فيه فاطمة عن البستان، فقد مرضت بعد أيام، وبينما كانت تجلس بجانب النار التي أشعلها والدها في غرفة الصفيح التي أضافها والدها للكرفان، سمعت صراخ أمها ففزعت وتذكرت صرخة أمها في تلك الليلة عندما نزلوا إلى بيت جدها، وخطر ببالها أنهم ربما ينتقلون لبيت جديد، سرعان ما تبين أن أمها وجدت فأراً في قدرٍ كانت تستخدمه للطهي.

فاطمة تفكير النجار طفلة من عشرات الأطفال الذين لا زالوا يقطنون مع عائلاتهم في الكرفانات الحديدية شديدة البرودة شتاءً وشديدة الحرارة صيفاً، كرفانات تفتقر لأدنى مقومات الحياة البشرية بعد أن فقدوا منازلهم خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة 2014، وما تزال فاطمة  وأسرتها ينتظرون بصبرٍ نافذٍ إعماراً لم تحن لحظته بعد.

اعداد: علاء عسقول